بعضٌ من وَجَعِ الأربعين ..


  مؤلم جداً أن تعود إلى القبور لدفن الرؤوس .. موجعٌ جداً أن تزور قبور أحبابك لتُودِعَ رؤوسهم و تضمُها مع أجسَادهِم تحت التُرب ...

  
رحلة الإمام عليٍّ السجاد عليه السلام لم تخلُ من الألم المُفتتِ للقلب للحظة .. أهوالُ ما رأى من كربلاء , دماءُ الأصحاب و دماءُ أهل البيت ! استغاثات الإمام الحسين... نداءات تفجع القلب.. تفجعه حرفياً من هول المصاب ! , عودةُ الخَيلِ إلى الخِيَم دون الإمام الحسين ! و هنا بدأ الوجع يكوي القلوب كَيَّاً و يحرقها ! ... 
حزُّ الرؤوس و رفعها على الرِماح ( و هذا المقطع يقتل الحزن ليلبسهُ حزناً سرمدياً ), حرقُ الخيام و الترويع ! :", رحلة السبي ( و آهٍ من السبي !! ) , وجَعُ الأسواط التي تنخرُهُ كلما ضَربَت السياط السبايا ...
أنينُ الطفلةِ رقيّة ( و زفرةٌ طويلة لا تمحي عذاب أنينِ ألمِ رقيّة !) و لا ندري بمقدار الثقل الذي جثى على صدرِ الإمام السجاد حينما بكت رقيةٌ على رأس أبيها , لا ندري بمقدار الهموم التي كانت تحوي كلمات الإمام مشيراً إلى رفعِ رقية عن رأس أبيها فقد فارقت روحها جسدها ! كمٌ لا يمكن تصوره من الوجع !
  
بعدد الأنفاس كان مقدار تهشمِّ القلب .. رغمُ كل ذلك كان الإمام صابراً .. صبرَ في السبي .. صبرَ في الكوفة .. صبر في الشام .. صبرُ النبوة و بهاءُ العزة و .. آلامٌ مدفونة تجثو على القلب . أنّاتٌ لم تتوقف , عطشٌ و جوعٌ و محاولةٌ للإذلال و لمحيِ الذكر .. و رغمَ كل هذا .. صبرٌ لا يتزلزل .. و أوجاعٌ تتراكم .. كان الإمام يُهدِئُ الرَكب , كان يضفي عليهم حناناً و مواساةً و كان يشكِّلُ لهم الأمان فلطالما الحجّة سالمة و لم تذبل فالرسالة قائمة .. كان على الإمام أن يتحمل الكثير الكثير ..

كان الإمام صابراً على الجِراح , يُضمِدها بالسكينة و الوقار , يُعالِجُ الأمَّةَ التي مَالَت عن الوِجْهَة .. كل هذا بـصبـرٍ مُهـيـب .. جراحٌ لم تُخرِج الـ (آه) و ونّة مخفية تنتظر زفرةً تُخرجِها! .. و لو تركنا كل ذلك و التفتنا للحظات دفنِ الأجساد لكان ذلك الألم لوحده كافياً لتضجّ الدموع .. رغم القلبِ المدميِ حد الموت كان الإمام يتحدث بثباتٍ حينما كان يجمعُ قِطَعَ جسدِ والده الإمام الحسين المُقطَّعة و المُهشَّمة ليدفنها و يقول لبني أسد : إن معي من يعينني .. رؤية الجثثِ المطروحة لمدة ثلاثِ أيام بلا غسلٍ و لا كفن  بعد رؤية ما جرى عليهم و كيف استشهدوا في عاشوراء  و دفنِهم!.. كان وقتاً عصيباً يتطلب قلباً ليس كبقية القلوب .. و رغمُ كل هذه المصائب كان الإمام صابــراً لم تخرج منهُ آه تعبّر عن مقدار تقطّع نياط قلبه ..مهيبٌ هو الإمام !


و بعد أربعينَ يوماً تصحبُ الريحُ بهدوء حنيناً لثرى نينوى , و تصحبُ الركبَ مع الرؤوس التي حُزَّت لتُدفنَ مع الأجساد التي فُصِلَت عنها  :" .. هناكَ التقى الإمام السجاد بالصحابي جابر الأنصاري ..كان لقاءً لجروحٍ تنزُف و دموعٍ تُخرِجُ الـ آه بحسرة ! . هنا خرجت زفرةٌ حزينة تقطّع القلوب .. و هنا أرخى الإمام حزنه .. هنا خرجت ( آهُ ) الإمام , هنا خرجت الكلمات المكبوتة :" و هنا خرجت الأشجان .. يا جابر !! ها هنا و الله قُتِلت رجَالُنَا ! .. و ذُبِحَت أطفالنَا ! .. و سُبِيَت نِسَاؤنا ! .. و أُحرِقَت خيامنا ! ".. هنا قتل حرملة أخي الرضيع على صدرِ والدي و ذبحه من الوريد إلى الوريد ! هنا قُتل أخي علي و قُطَّعوه بالسيوف إرباً إرباً .. هنا هنا .. و كلماتٍ ترافقها الدموع .. و جروحٌ يُصلّي عليها الدهر ما بقي ..
آهٍ من تلك الحرقةِ العظيمة !

من يتأمل سيرةَ الإمام علي بن الحسين عليهما السلام و يقرأ تفاصيل عمره و المصائب التي كانت تجثو على صدره فإنه سيتعجب من كساءِ صبرِ النبوة الذي اصطبغ به صبر الإمام !.. و سيعلم معنى هذه العبارة : بِحق " مُـهــيــبٌ هوَ الإمام ! " ..
كان الجرحُ مفتوحاً إلى لحظات استشهاده و بقيَ الجرحُ المُتوَجِّع خالِداً ينادي :
السلامُ على الحسين , و على عليِّ بن الحسين , و على أولادِ الحُسين , و على أصحابِ الحسين .




تأملاتٌ استلهمتها من كلماتِ قالتها لي معلمتي مها ..

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق