القرار الرابع : السير على الطريق .




في الأمس كُنتُ هكذا .. 
قبل اتخاذي لهذا القرار كنتُ في محيط التيه مقطوعةً , مبتورةً عن الهواء .. 


في حياتي القصيرة هذه اتخذت خمسَ قراراتٍ كبيرة , خمسَ قراراتٍ غيّرت مصير الأيام التي تليها بشكلٍ جذري .. خمسَ قراراتٍ تم اتخاذها بعد تفكيرٍ .. خمسَ قرارتٍ غيرت مستقبلي للأجمل . 
القرار الرابع في حياتي .. كان كبيراً علي , و بنفس الوقت .. أزاح هماً ثقيلاً جداً مني . . ممتنةٌ جداً لاتخاذ هذا القرار .


بدونِ إبهامٍ أو غموض .. سأتكلم بشكلٍ عفوي عن تلك الـ " بقعة السوداء " التي يسرني كثيراً أنني تخلصت منها . 
ساحدثكم عن كيفية اتخاذي لهذا القرار .. بل عن تلك الأفكار التي اختلجت في داخلي لتخرجني من ذلك المستنقع الذي كدت أغرق فيه بلا عودة .. لو لا رأفةٌ منحني إياها من لا رحمانَ بحقٍ سواه . 

كنتُ فتاةً ينتمي أبواها و عائلتها لـ الإسلام .. فَـكنت كأي فتاةٍ تولد وسط عائلة تؤمن بمعتقدٍ ما , معتقدةً به كإرثٍ اخذته منهم .. وُلدت و درستُ في دولةٍ ينتشر فيها الإسلام فكانت المدرسة بطبيعة الحال تعلّمنا الدين , فتعلمت كلماتٍ كثيرة استطيع أن ألقلق بها لساني ظناً مني أن حفظي لها و لقلقتي بها سيكونان كل ما أحتاج له في القبر .. عندما أًسأل من قِبلِ منكرٍ و نكير  . 
كبرتُ و كبرت آفاق العالم .. كبرتُ و لا زلت أحتفظ بالفضول في داخلي لكل شيء ... فكنت أحب أن أتعلم عن الكثير الكثير مما هو في الأرض و في السماء بل و في الكون منذ بدء الخليقة إلى يومنا .. كنتُ أحب أن أعرف عن التأريخ و عن الناس في كل مكان .. أؤمن بوجود الحياة في الكواكب الأخرى فلو توفرت المصادر للتعرف عليهم لربما كنت لم يترك فضولي هذه النقطة أيضاً .. و كنتُ أعشق كون الإسلام يأمرنا بالتدبر .. التأمل .. و العلم 
و لكن .. ما الإسلام حقاً ؟ .. لا زلت أحفظ ما تعلمته في الصف الأول ابتدائي , و لكن لم أكن أجد رهبةً عند النطق به ! حينما اكتشفت هذه النقطة علمت يقيناً أن هناكَ خللاً ما في داخلي ! .. 
كان لساني يلقلق بالأحكام .. الغيبة محرمة .. الغناء محرم .. السلام واجب .. المسلم على المسلم كله حرام .. الابتسامة صدقة .. و لكن , ما لي لا أراني أطبقها ؟ أهل كل ما سيحاسبنا عليه خالقنا هو ما نحفظه من هذه الكتب ؟ ماذا عن أنه يعلم السر و أخفى ؟! أوهل نخفض أصواتنا لنغتاب شخصيةً لكيلا تسمعنا صديقتها فتخبرها ! .. هل هكذا هو اعتقادي بالـ " رب " الذي أعبده ؟ 
منذ أن بدأت تدور في رأسي هذه الأسألة كنتُ في حالة اضطراب هائلة .. كانت حياتي متوقفةً حالياً على خطوتي التالية .. و لكني ظللت واقفةً خوفاً من أن تكون الخطوة التالية إرثاً لـ لقلقة لم يعتقدها قلبي حقاً .. و عزمت على أن لا أخطوها إلا حينما يؤمن قلبي يقيناً بـ العظمة المطلقة الحقة . 

لكم أن تتخيلوا أني بدأت أشك بعباداتي واحدةً واحدة .. فإن لم تكن مقدمةً بحب و إيمان , أهيَ مقدمةٌ لإرضاء عائلتي فقط , أم هيَ مرسلةٌ للسماء بقصد إسقاط هذا الواجب عن كتفي ؟ 
لم يكن الأمر واضحاً بالنسبة لي .. لم أكن مكتفيةً بالقراءة و العمل إن لم يكن قلبي منعقداً بالإيمان بهذا الأمر حقاً .. 
قررت أن أقشع تلك الغمامة السوداء من قلبي و للأبد .. و من هذه اللحظة بدأت مسيرةً كانت طويلة للبحثِ عن إنعقادِ قلبي حقاً .. 
و لكي تبدأ رحلتي للبحث عن المعتقد الحق كان لابد علي أن أتعرف على المعتقدِ الذي أنا فيه حالياً لكي أقارن بينه و بين المعتقدات الأخرى بشكلٍ عادل .. و منذ أن قررت أن أبدأ الرحلة شرِطتُ على نفسي أن لا أتحيّز لشيءٍ أبداً لأرى كل شيءٍ بوضوح دون غمامٍ أبداً .. 

اكتشفت أن الإسلام عالمٌ واسِـــــــــعٌ جداً! عالمٌ يفوحُ جمالاً و يذوب بالجمال ! بسيطٌ جداً .. و دقيقٌ جداً ! كل تفصيلٍ فيه ما وُضِع إلا بحكمةٍ و لغايةٍ من الجمال المحتوم .. اكتشفت أن الإسلام عقيدةٌ مرتبطةٌ بشكلٍ وثيق بالأخلاق و الرُقي .. رأيت الإسلام كما لم أدخله من قبل ! 

لقد رأيت طُريقاً كثيرة , قرأت عن معتقداتٍ و كتب و دياناتٍ و شخصياتٍ بارزةٍ فيها .. و في نهاية المطاف عاد قلبي باختياره دون انحياز , و اختار عقلي عشقاً دون انحياز طريقَ الإسلام . 

الإسلام الذي عشقته ليس لقلقات لسان .. بل عقيدةٌ راسخةٌ في القلب .
الإسلام الذي تعلّق قلبي به لم يكن إرثاً أخذته من عائلتي .. بل كان شيئاً اعتنقته بكل جوارحي و انخلع قلبي برؤية مهابته ! 

الخلل لم يكن يوماً في الإسلام نفسه ! فهو رائــع حد الكمال ! هو غاية العاشقين , منتهى آمال العارفين .. محطة المفكّرين .. منبع العلم و العزة .. غيثُ الجود و الحسن .. لؤلؤة الأخلاق و نورُ العوالم كلها بدءاً بعالم الذر إلى عوالم ما بعد البرزخ .. هو كرامةٌ لا انتهاء لها .. 
الخلل كان في من يمثّلون الإسلام .. فمن يؤمن بالإسلام حقاً لا يمكن للسانه أن يجري بالغيبة لأنه يشلّ مهابةً من الخالق الواحد ! 
من يعتنق الإسلام حقا لا يمكنه أن يستأنس بالغناء لأنه يخرّ طوعاً لأوامر من يؤمن به .

رأيت الإسلام طريقاً .. و اخترته درباً أريد السير فيه و الموت على إحدى حجارته .. 
و لكن الإختيار لا يعني السير .. 
فلقد كان جهازي حاملاً لـ أغانٍ أسمعها بين الفينة و الأخرى ! .. لم يكن هذا هو الطريق الذي عشقت ! 
كنت ممن رأى النور و لكنه كان عاجزاً عن الوصول لأنه يقف على الطريق الخطأ ! لم أرد حاجزاً يمنعني من الدخول في ذلك النور , و الولوج في ذلك الدين الذي يحمل جمالاً عظيماً , عظيماً جدا ..

فكانت تلك الليلة .. قبل أكثر من سنة .. قبل أكثر من شهر و يوم .. في ليلةٍ من شهرِ صفر .. أنا و جهازي في غرفتي .. و قلبي و روحي ينتظران العروج حد السماء و أعلى .. 
أذكر جيداً أنني قررت حذف جميع الأغاني دون استثناء من جهازي .. و لكن العيب في قراري كان أني سأستمع لهم للمرة الأخيرة و من ثم سأحذفهم .
و لكن " الإسلام " الذي تعرفت عليه و عشقته من أعماق قلبي يخبرني جازماً أن أجل الإنسان ليس بيده و من الممكن أن تُقبض روحي في أي لحظة الآن ( أي ربما تقبض و أنا استمع لهم قبل أن أتمكن من حذفهم !) , و خاتمة الإنسان تؤثر كثيراً على صحيفة أعماله الذي سيحاسب عليها في عالم ما بعد الموت .. 
لذا كان قراري الرابع .. أن أحذف جميع الأغاني من أجهزتي كافة في تلك اللحظة دون الإستماع لهم .. بل دون العودة إليهم مطلقاً , فلقد تم حذفهم من مستند الحاضر و من صفحات المستقبل من حياتي . 

قطعت تلك الحبال التي كانت تمنع جناحيّ من التحليق .. بترتُ تلك العدسة التي كانت تمنع عيني من الرؤية بشكلٍ واسع .. خرجت من ذلك العمق الذي كان يشدني لعالمٍ من التيه و اللا هدف
 .. زفرت زفرةً طويلة .. توكلت على الله , ابتدأت بالبسملة .. و دخلت في عالمِ حياتي الآخر =) 

رأيت كثيراً من المقاطع الجميلة , استمعت لكثيرٍ من الأدعية المهيبة , قرأت كثيراُ من الأمور التي لم تزدني إلا عشقاً لهذا الطريق العظيم .. و اكتشفت عالماً آخر ! هناك كثيرٌ من المقاطع الصوتية الجميلة التي لم أكن أعرفها ! هناك حناجرُ كثيرة كنت أجهلها و التمست فيها جمالاً أعظم من تلك التي كنت أحسبها جميلة .. دخلتُ عالماً مختلفاً ! فكل شيء فيهِ جميل ! 


كل شيءٍ في حياتي اختلف منذ تلك اللحظة ! .. 
فرؤية الطريق كانت مختلفةً جداً عن السير فيه ! 
رؤيته تقتضي تخزين الصور في العقل دون العمل بها حقا ..
أما السير عليه فهي عالمٌ يكفي لكتابة الآلاف من الروايات وصفاً لجماله ! 
كل تفصيلٍ دقيق , كل ذرةٍ في الكون , كل شيء بدءاً من ذلك اليوم .. كان يسير وفق اعتناق ٍ لجمالٍ لا نهاية له ..
أصبح قلبي يطفو بعد ذلك الغرق في لجج التَيهْ .. 
أقولها و الدموع تملأ عيني .. أصبح قلبي يؤمن و يعتقد بكل ذرة فيه بالدين الذي اعتلق كياني به =")
تركت اللقلقات و دخلت آفاق السعادات ! كل تعليمٍ في الإسلام يثمر خيراً ! و كيف لا يكون كمالاً و هو ربيعٌ مشرق .. أجمل من بريق الذهب , أعلى من قمم الجبال , أرقى من الأمور السطحية , إنه نورٌ يبزغ في قلبِ كل من يعتنق الحقيقة و يسير في درب الوصول إلى الكمال الذي لا يشوبه انحطاط أبداً



خرجت من غياهب الظلمات , و انعتقت من سلاسل الغرق .. إلى عالمٍ من النور , إلى نورٍ على نور , و يقينٍ لا يخلو من شوقٍ و محبة .
قراري الرابع بالسير في طريق الإسلام كان قراراً قد غيّر مجرى تأريخ حياتي منذ ذلك الحين .. فقد فُتحت ليَ آفاقٌ أوسع , و حذفت من اهتماماتي أمورٌ لم تكن لتضيف بريقاً حقيقياً في حياتي .. و أشرقت شمس الحياة في قلبي و اختفى الاضطراب ذاك منه . 
خطوت الخطوة التالية بكل ثقة .. فوضعت قدمي برسوخٍ على الأرض و استنشقت الهواء النقي .. و بدأت متوكلةً على الله عز و جل السير على طريقٍ بدأ قلبي التعرف عليه أكثر فأكثر .. و لا يزال الطريق يحمل جمالاً لم يُعرف من قِبلنا بعد 



" إلهي مَنْ ذَا الّذِي ذَاقَ حَلَاوَةَ مَحِبَتِكَ فَرَامَ مِنكَ بَدَلاً , وَ مَن ذَا الّذِي أَنِسَ بِقُرْبِكَ فَابْتَغَى عَنكَ حِوَلاً " _ مقطع من مناجاة المحبين .

حينما أتأمل اليوم صفحات الماضي و أجد هذه الصفحة .. لا يسعفني البكاء , و لا أرى الابتسامة فخراً أمراً كافياً .. بل السجود شكراً لله تبارك و تعالى هو ما يسعف قلبي للتعبير عن امتنانه 

و هكذا بدأتُ رحلةً من دخول عالمِ الجمال , عالمِ الطهر ..
و اكتشفت عددا من العاشقين لهذا الطهر .. و كل عاشقٍ مؤمنٍ متعلقٍ بحق رأيته قد نال عظمةً و نوراً من الجمال يكسوه جلباب تواضعٍ مهيب 

يا من يعلم من كنت و من سأكون .. يا من يا يعلم ما كان و ما سيكون .. يا حياً قبل كل حي , و يا حياً بعد كل حي , و يا حياً حين لا حي .. يا من لا إله إلا هو  لكَ الحمد حمداً سرمدياً أزلياً لا انقطاع له و لا اضمحلال و لا زوال و لا انتهاء لعدده .. لكَ الحمد وحدك .. لك الحمد يا رب     






ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق